
في بيان قيمة الفلسفة والرد على منتقديها
في بيان قيمة الفلسفة و الرد عن منتقديها ، مقال نحاول من خلاله التعرف على قيمة الفلسفة وأهميتها، كما أننا سنحاول الرد على منتقديها والمشككين فيها من خلال رؤية نقدية بناءة للموضوع.
منذ بزوغ فجر التاريخ انطلقت دوامة الحياة مبشرة بميلاد أزواج ثنائية من الموجودات المتصارعة،
سواء أمام الوجود الطبيعي اللامتناهي أو أمام العوالم الخفية المفارقة للطبيعة، والتي تحمل في مكنوناتها أسرار غامضة، تتطلب جرأة فكرية،
قادها وعي الإنسان منذ بداية مغامراته الأولى، كاشفا عن طبيعتها المعقدة والصعبة،
ولكن هناك من لا يقبل الهزيمة ويصمد أمام الغموض ليواجهه بكل دافعية،
وهذا لم يحظى به أي فكر، غير العقل الفلسفي الباحث عن الحكمة وراء وجود الأشياء،
ولكن رغم هذه الخدمة العظيمة الهادفة التهذيب البشرية وتنويرها،
إلا أنه يوجد أعداء له أرادوا احباطه واخضاعه للاستسلام.
ومن هنا يطرح الإشكال التالي:
كيف يمكننا مواجهة العنصرية الممارسة ضد الفلسفة؟
وكيف تبرز قيمة الفلسفة ومنتوج ثمارها في تنوير الإنسان؟
الرؤية النقدية لأعداء الفلسفة:
إن التشكيك في قيمة الفلسفة وفاعليتها ليس وليد اليوم،بل أثبت هذا الموقف وجوده منذ الانطلاقات الأولى للحركات الفكرية زمن الفلاسفة الطبيعيين.
حيث تعرض اول فيلسوف يوناني “طاليس الملطي” للسخرية والاستهزاء، وذلك بسبب قصته الشهيرة مفادها أنه كان شديد الاخلاص لفلسفته.
وفي أحد الأيام دون أن يشعر وهو يتأمل السماء والنجوم بعمق سقط في أحد الآبار ولسوء الحظ شاهدته خادمته،
فذهبت مسرعة لتذيع الخبر، قائلة بأنه يبحث في البعيد الموغل في البعد، ومتعثر أمام القريب المباشر.
ومنذ تلك اللحظة اتهم الفيلسوف بأنه سارح هائم في عالم لا وجود له،
عالم وهمي، يذهب به إلى أقصى الميثالية، ويترك واجباته الطبيعة،
وكما حدث هذا أيضا مع سقراط الذي أمهل نفسه وزوجته وبيته، وذهب ليقيم فلسفته العقلية، والتي اتهم فيها بإفساد عقول الشباب.
لم تتوقف النظرة العدائية عند هذا الحد، بل انتشرت في العصور الوسطى مقولات خطيرة ضد النظم الدينية والمعتقدات السائدة والسخط أمام الواقع والخروج عن الملة بسبب خداعها للإنسان.
كما أن هناك من يرى بأن انفصال العلوم عنها دليل كافي لاثبات عدم الجدوى منها، انطلاقا من التطورات العلمية والبيولوجية التي خلصت الانسان من الامراض والأوهام.
وما يدهش أكثر أنه قد وصل الأمر بأعدائها بوصفها كرجل أعمى يبحث في غرفة مظلمة عن قطة سوداء لا وجود لها، وانها لن تتطور مهما قدم أصحابها.
الرد على شكاك الفلسفة :
يكفي كل هذا النقد الذي اصبح لا يطاق،
كيف تحكمون بأن الرؤية تقتصر على العين فقط؟ وتناسيتم ان البصيرة القلبية أصدق مما هو حسي، وأن الإرادة والاصرار يلعبان دورا كبيرا،
وكم أثبت التاريخ الانساني ذلك بوجود أصحاب العاهات والعجزى البارزين في الساحة الفكرية من علماء وفلاسفة.
ومن قال لكم بأن ظلام الغرفة مستمر؟
فهذا أمر باطل، ألم يعلمكم العلم الفيزيائي بأن الحركة مستمرة وأن الظلام يعقبه النور؟
وهذا ينطبق على النور الموجود في العالم، والذي يتحرى منه الفيلسوف موضوعات مهمة، تنير العقل وتزيل غبار الترسبات القديمة، ثم تقوم بغربلة أصوب الأفكار.
وبالتالي هذا العالم موجود لأنه في علاقة دائمة مع الانسان وهو من يحدد كينونته، والتعامل معه يتطلب إرادة الفيلسوف القوية لخوض رحلة الاستكشاف.
ومن يقول عكس هذا، فهو دليل على إرادته المحبطة اتجاه جوهر الحياة وقيمتها.
ثم يتواصل زعمهم بتشبيه الحقيقة بالقطة السوداء، كدلالة قاطعة على عنصريتهم وتصديقهم لأوهام وخرافات ساذجة، توحي لهم بأن القط ولونه مصدران للتشاؤم.
وهذا أمر غير منطقي، لأنه يمتلك خاصية عجيبة، وهي أنه كلما تناقصت شدة الاشعاع الخارجي وحل الظلام،
كلما زادت شدة التوهج البصري انطلاقا من المادة العاكسة للرؤية، ولهذا تتعجب من رؤية مصباح ازرق مشع يتحرك ليلا.
وهذا هو شأن الحقيقة،
وبما أننا تحدثنا عنها ونحن ندركها فهي موجودة فعلا، وما على الانسان الا مواجهتها وتقصي البحث عنها.
كما أن من يعتقد غير هذا فهو إنسان يعيش بجانبه الحسي ومفتقر إلى تطعيم حياته الروحية بالأمل والتفاؤل.
فبعد مناقشة هذه الانتقادات يظهر بأنهم حسب تعبير “بيرتراند راسل” ضمن الصنف الذي ليس لهم أي نصيب من الفلسفة، فهم يمضون حياتهم معتمدين على ما توصل إليه أسلافهم،
يظهر الكون أمامهم واضحا،جليا، عاديا، لا يقبل التفلسف والتعمق فيه:
نعم، يظهر الكون أمامهم واضحا،جليا، عاديا، لا يقبل التفلسف والتعمق فيه،
ولكنهم يواصلون في إصدار الأحكام القديمة وكأنها صالحة لكل الأمكنة والأزمنة.
ولهذا فهم يحتقرون الفلسفة ذلك الطفل الهمجي الذي يزيل راحتهم، ويضعهم أمام أمر الواقع.
كما أنهم يخافون أن يكشف ذلك الفكر أقنعتهم وأكاذيبهم وأوهامهم،
فإن مواجهة هذا الفكر العنيد سيؤدي بهم إلى السقوط في قاع التذمر والخذلان.
دعونا منهم لأنهم إن دافعوا عنها أو انتقدوها،
فإنه في كلتا الحالتين سيبقى التفلسف قائم ولازم، مثلما يرى أرسطو.
فهذه هي حقيقة الأمر، فحتى نقدهم للفلسفة يجعلها تضمهم إليها لأنها بكل بساطة وموضوعية هي واسعة الرحب مسامحة ومحبة للجميع، وتمارس معهم رابطة الأمومة بأكمل وجه.